الكتاب الورقي، والكتاب الألكتروني..
تجربتي الشخصية أثرتها الكتب الورقية، فلها عليَّ فضل كبيرٌ في مراحل حياتي الأولى، صحبتها وأحببتها، وشكلتُ منها رفيقاً وأنيسا.. ولازلت -ولله الحمد- أحتفظ بها مع الحب والتقدير، لكني أيضا ممتنٌ للتكنلوجيا الحديثة، فهي يسرت الكتب وسهلت التعامل معها، وقربت البعيد، وأثرت عوالم القراء بكتب لا نستطيع الحصول عليها ورقيا لعدم وجودها في البلد، وأخرى لا نستطيع شراءها..
لذلك أنا ممن يرى أنَّ الحياةَ لا تَسْتَقِيمُ بِالكتَابِ الْوَرَقِيِّ وَحْدَه، ولا الألكتروني، حيث الجمع ههنا ممكن، وسائغ.
قد يزعم البعض أن الكتاب الورقي يحافظ على البصر، قلتُ كذلك الكتاب الألكتروني، لكن ذلك يحتاج إلى ماهر فأغلب برامج القراءة تتيح خاصية التعامل مع الورق، ونوع الإضاءة ومستوها، وجربوا إن شئتم تطبيق (moon reader) فهو سهل يضع لك الكتب في رفوفٍ، ويتيح عددا من الخصائص الكثيرة التي تجعلك في جو من الاسترخاء يُرغّبك في المطالعة( اختيار: الموسيقى الهادئة، وأصوات الرياح، وخرير المياه، وحركة الأشجار في الغابة…إلخ)، هذا بالنسبة لمستخدمي الآندرويد.
وتوفر شركة (آيبل) تطبيقات مختلفة لقراءة الكتب والاستماع إليها صوتيا بعضها مجاني والآخر مدفوع الثمن.
كما توفر شركة (مايكروسوفت) في إصداراتها الجديدة أيضا عدة برامج لقراءة الكتب المصورة منها مثلا العملاق (Dawboard PDF) حيث يُمكنك هذا الأخير من اختيار الصفحات المناسبة للقراءة، و وضع مرجع للكتاب تعود إليه في الوقت الذي تريد، وتحديد أماكن الاستشهاد بحبر عازل، والنسخ واللصق، وتصوير الورقة بدقة عالية…إلخ
أريت..! أنت فقط من يحتاج إلى إعادة تصوُّرٍ، وترتيب للأولويات، ثم الاستعداد الحقيقي.
أما بالنسبة لعمليات البحث، فهناك من يقول إنَّ الكتاب الورقي يفرض عليك قراءة أكثر من صفحة حتى تحصل على مرادك، وبالتالي تُحصِّل معلومات كثيرة رغما عنك، قلتُ هذا قد يختلف حسب وقت الباحث وتفرغه، ولا شك أنَّ عمليات البحث تحتاج إلى استغلال للوقت، ودقة في الوصول إلى المعلومة، والباحث في كتاب ورقي معينٍ لا يبحث في كل كتاب وإنما يُحدد موضوع الكتاب، ثم الباب، وربما الفروع المندرجة تحت ذلك من خلال العودة إلى الفهرست..
ولو سلَّمنا جدلا بهذا الرأي التفضيلي فإنه أيضا يصدق على الكتاب الألكتروني، فبعض الكتب الألكترونية لا يدعم أصلا عمليات البحث المحدَّد (بعض الكتب المصورة)، وعمليات البحث مختلفة ومتنوعة؛ فمنها الشامل والضيق أو ما نسميه البحث المتقدم، ثم البحث في العناوين، والبحث في المحتوى، والبحث بالكلمات، والبحث بالجمل وهكذا…
وهذا مجال للدراسة والإطلاع، وله مختصوه، ونظمت فيه عشرات الدورات العلمية، يرجع إليها من يريد الاطلاع، والاستزادة.
وللأجهزة الألكترونية فضائل لعل أبرزها جمع عشرات الكتب في مكان وحد، تصحبها في سفرك، وتستفيد منها متى شئت، وهذا غير ممكن بالنسبة للكتاب الورقي، وأنا أحيانا كنت أضطر إلى تصوير بعض الصفحات ب(التابلت) حتى أطالعها أثناء التنقل.
وقبل الانتهاء أريد أن أنبه على أمور:
أولا: الرغبة أنت من يصنعها، بواعثها فيكَ ومنك، لأنها ذاتية محضة، ومتى توفر الدافع سهلت المطالب.
ثانيا: من تقيّده الأعذار عن القراءة ليس قارئا حقيقيا، وليس من الصنف الذي أتحدث عنه إطلاقا.
أما ما يتعلق بمسهلات القراءة، أو القراءة المثمرة فالأشياء المعينة عليها -من وجهة نظري- هي:
1- الاستعداد للبذل وتخصيص مبلغ مقدر لشراء الكتب، ولا يكون قارئا من هِمَّته محصورة في الإعارة، لأنَّ الكتبُ تعطي كلها من أنفق عليها من جيبه، وأكْبَرَهَا في نفسه، وعظمها، وساكنها وصحبها عن قرب وتملك.
2- التمييز بين القراءة بأنواعها، والكتب المقروءة كذلك: فبعض القراءة لابد له من أوقات معينة، وأماكن، لأنه يحتاج إلى مستوى من التركيز، وأحيانا تحتاج إلى ورقة وقلم أثناء القراءة لتدوين الملاحظات، والاختيارات، وبعض الكتبِ يُقرأ في النقل العام، وصالات الانتظار، وعند نزول الثقلاء، ومع الزوجة غير الرومانسية، فلابد من فهم ذلك.
3- الكتب كثيرة ومتنوعة والعمر قصير محدود، لذلك ينبغي أن نحدد مجالات معينة نعطيها الاهتمام الأكبر، ونركز عليها أكثر من غيرها، حتى تكون القراءة راشدة قاصدة، ولا يمنع ذلك من كثرة الاطلاع، شريطة أن لا يتحول الاطلاع وحب الاستكشاف إلى فوضى، فالفوضى تليق بالثرثارين السطحيين الذين يتحدثون في كل شيء ولا يعرفون شيئا؛ الفوضى باختصار تُعطيك حشوا، لكنها لا تصنع منك إنسانا مستقيما راسخا.
4- اشتر جهازا لوحيا خصصه للقراءة، يصحبك حيث لا يمكنك أن تحتفظ بالكتب الورقية، وإياك أن تتعلل بالسعر، فهذه الأجهزة متوفرة بأسعار مختلفة، وبعضها أحيانا لا يتجاوز سعره 50 ألف أوقية بالحساب القديم، وقد تجدها مستخدمة بسعر أدون من ذلك؛ بل يصل أحيانا ثمنها إلى 10 آلاف أوقية بالحساب القديم، ومن #نواكشوط أحدثكم.
5- إياك والقراءة تحت الضغط، لا تقرأ الكتاب لأن الكل يقرؤه، ولا لرواجه بين الناس، أو لمكانة كاتبه ومؤلفه، ذلك شيء يضرُّ وَعْيَكَ ويجعلك تسير في قوالب محددة سلفا، وهذا يتعارض مع صناعة الذات وتكوين الشخصية، وقد يصح هذا مع الأطفال وغير البالغين، لكنه لا يستقيم مع من يريد لنفسه سموا ورفعة، ونضجا وحسن هضم، وليس من ذلك البحث عن الطبعات الجيدة، ودور الكتب الموثوقة، والمؤلفين العارفين، وحذاق المحققين، بل ذلك واجب.
6- تَعَرَّفْ على الكتاب في المكتبة، أو معرض الكتاب، لابد لك من ذلك، هذه من أوجب الواجبات، وأوليات الحياة، وإني لأعجب من قرَّاء يسألون اليوم عن مكتبة الولاتي، أو الإصلاح، أو القرنين، أو المكتبة الكبرى في العاصمة..
لابد من تخصيص وقت معين لزيارة المكتبة، تعرف عليها وعرف زوجتك وأبناءك، وستجد نفسك مع الوقت قارئا جيدا.
7- كوّن مكتبك الشخصية حسب ميولك ورغباتك ومجالات قراءتك، وهذا أمر سهل ميسور، وكل حسب سعته.
8- حب الكتاب لا يكفي لكنه مهم، ومعرفة أسماء الكتب لا تكفي لكنها مرحلة، وزيارة المكتبات لا تكفي لكنها مفيدة، والمفيد حقا هو أن تجمع بين جميع ما تقدم.
وفي النهاية لا شيء أجمل من صحبة الكتاب الورقي، لكنه لا يغني عن الألكتروني، وهما يتكاملان، ولا يتعارضان، ومن المستحيل أن تكون عمليات التيسير وتقريب العلوم مانعة منها، وإنما المشكل اليوم في ضعف الهمم، وعدم بناء الذات، وتهيئتها للتحصيل، أو جعل العلم وسيلة لتحصيل الدرجات لنيل الشهادات ومن ثم الحصول على وظيفة، وبالتالي لا قيمة للعلم إلا حيث يوصلك إلى هذه النهاية البائسة وحيث استطعت الوصول إليها دونه لعنته ولعنت المشتغلين به..!
العلم هو سبب رقي الأمم، ولا تستغني عنه إلا أمة لا تحترم نفسها، ويُراد لها أن تظل ذيلا يتبع الأمم الأخرى، لا يؤثر حاضرا ولا غائبا.